Published in al-Majalla
عندما يتوفى رئيس دولة ما في حادث درامي لتحطم طائرة هليكوبتر، من الطبيعي أن يتوقع المرء قدرا من الصدمة وتغييرات في البرامج. ولكن، حتى الأحداث الصادمة التي وقعت يوم 19 مايو/أيار الماضي لم تتمكن من إيقاف الساعة البيروقراطية للجمهورية الإسلامية الإيرانية. ففي 21 مايو/أيار، بدأ “مجلس خبراء القيادة” الإيراني اجتماعه كما كان مقررا. وكان المزاج كئيبا منذ وفاة عضوي المجلس، الرئيس إبراهيم رئيسي، ومحمد علي آل هاشم، إمام صلاة الجمعة في تبريز، في الحادث.
وترددت شائعات عن رئيسي، الذي كان يشغل في السابق منصب النائب الأول لرئيس المجلس، كمرشح محتمل لرئاسته. ومع رحيله، انتقل المنصب إلى محمد علي موحدي كرماني، البالغ من العمر 93 عاما، وهو ثاني أكبر أعضاء المجلس، وأصغر من الرئيس السابق علي جنّتي بأربع سنوات فقط. وحصل كرماني على 55 صوتا من أصل 86، أما نتائج باقي المرشحين فلم تنشر.
الإشراف على “المرشد”؟
“مجلس الخبراء” من أغرب المؤسسات المنتخبة في العالم. فعلى الرغم من إجراء انتخاباته ضمن استطلاعات عامة، فإن أعضاءه يجب أن يكونوا حصرا من مرجعيات دينية مؤهلة بشكل عال، إذ إن أهم وظيفة لهم هي الإشراف على أداء “المرشد الأعلى” في إيران، والأهم من ذلك، استبداله في حال فشله في أداء واجباته أو وفاته. ويتألف المجلس بالكامل تقريبا من رجال الدين الشيعة على الرغم من وجود أعضاء من الطائفة السنيّة من المحافظات ذات الأغلبية السنية مثل كردستان، وسيستان-بلوشستان.
وكان المجلس يضم في السابق خبراء في الفقه الإسلامي من غير رجال الدين الشيعة أيضا، رغم عدم وجود أي منهم في الدورة الحالية. ويتولى هذا المجلس من الخبراء الدينيين المخضرمين مهمة البحث في مسألة بلا شك شغلت كثيرين في السياسة العالمية، وهي مسألة خلافة آية الله علي خامنئي الذي يبلغ من العمر 85 عاما، والذي دخل في المرحلة الأخيرة من حياته. ومن المرجح أن يقوم المجلس الحالي، الذي ستستمر ولايته لثماني سنوات، باختيار بديل لخامنئي، إلا إذا كان المرشد يسعى ليعيش حياة أطول من المعتاد.
ويستند منصب “المرشد الأعلى” نفسه إلى نظرية شيعية فريدة تُعرف باسم “ولاية الفقيه”، والتي تستمد أصولها من التقاليد الإسلامية بقدر ما تستمدها من جمهورية أفلاطون وفكرة الملك الفيلسوف. ووفقا لهذه النظرية، فإن أغلب السلطات الكبيرة في البلاد تقع في يد رجل دين شيعي رفيع المستوى.
لكن حُكم خامنئي لم يتسم لا بأفلاطون ولا بالقرآن. ولم يكن يعتمد على أي مجلس أو خبراء. بل حكم “المرشد الأعلى” بقبضة من حديد وعقد تحالفات سياسية ذكية، أهمها التحالف مع المؤسسة الدينية ومع الميليشيات التي تشكل جزءا كبيرا من هيكل السلطة في إيران اليوم، وهي “الحرس الثوري الإسلامي”.
مجلس صيانة الدستور
الأمر المثير في حكم خامنئي هو أنه وعلى الرغم من امتلاكه لسلطة شبه مطلقة في إيران، فإنه لم يستغن أبدا عن المؤسسات المعقدة مثل “مجلس الخبراء” أو الرئاسة أو البرلمان. وهو يعلم جيدا أن هذه المؤسسات، حتى في حالاتها الأكثر تقييدا، توفر مظهرا دستوريا وتحقيقا لنسبة معينة من مشاركة النخبة.
لكن خامنئي استخدم نفوذه على هيئة أخرى يهيمن عليها رجال الدين لجعل جميع الانتخابات، وبالتالي جميع المؤسسات المنتخبة، دون أهمية حقيقية. هذه الهيئة هي “مجلس صيانة الدستور”، الذي يتكون من ستة فقهاء وستة رجال دين، جميعهم معينون بشكل مباشر أو غير مباشر من قبل خامنئي. لا يمكن للمجلس فقط رفض أي تشريع لا يعجبه، بل يتمتع أيضا بسلطة لفحص المرشحين لجميع الانتخابات في الجمهورية الإسلامية. ومنذ عام 2020، وتحت ظل خامنئي، استخدم المجلس هذه السلطة لحصر جميع الانتخابات بأيدي أشد الموالين للنظام.
ويمتد هذا حتى إلى “مجلس الخبراء” الذي كانت انتخاباته في وقت سابق من هذا العام أكثر زيفا من غيرها. وقبل ثماني سنوات فقط، في عام 2016، كانت انتخابات مجلس النواب تنافسية بما يكفي لجذب ملايين الإيرانيين ليصوّتوا بحماس لإقصاء بعض من أكثر حلفاء خامنئي تشددا، مما أدى إلى تعبير “المرشد” عن استيائه علنا.
هذه المرة، مُنع المئات من رجال الدين المؤهلين تأهيلا عاليا من الترشح من قبل “مجلس صيانة الدستور”. وفي النهاية، سُمح لـ144 رجل دين فقط بالترشح لـ88 مقعدا، أي بمعدل 1.6 شخص لكل مقعد. ومُنع حسن روحاني، الذي كان عضوا في المجلس لفترة طويلة ورئيسا سابقا، من الترشح، كما مُنع أيضا محمود علوي، وزير الاستخبارات السابق. ومع امتناع الناخبين المؤيدين للإصلاح عن الانتخاب، خسر حتى بعض المحافظين الوسطيين الذين كانوا على خلاف مع خامنئي مقاعدهم.
وكان هذا هو مصير صادق لاريجاني، أحد أفراد عائلة دينية كبيرة من قم ورئيس “مجلس تشخيص مصلحة النظام”. وشكّل منع شقيقه علي، الرئيس السابق للبرلمان، من الترشح للرئاسة عام 2021، ضربة أخرى لعائلة كبرى يبدو أنها تدفع ثمن التحالف الذي أبرمته مع روحاني خلال فترة إدارته الممتدة من 2013 إلى 2021.
ونظرا لطبيعة المجلس، لا ينبغي للمرء أن يفاجأ بكبر سن من فيه. إذ يبلغ متوسط أعمار أعضائه 65 عاما، و52 من أعضائه ولدوا قبل الستينات؛ 6 منهم ولدوا قبل الأربعينات، وواحد فقط، وهو أصغرهم، ولد في الثمانينات.
موحدي كرماني
ويعتبر موحدي كرماني، الرئيس التسعيني الجديد، نموذجا لطبقة رجال الدين السياسيين في إيران. ويرأس كرماني، وهو ناشط سياسي منذ فترة طويلة “المجلس المركزي لجمعية علماء الدين المجاهدين”، وهي منظمة تأسست في السبعينات، في الفترة التي سبقت ثورة 1979، وكانت تجمع المؤيدين الداعمين للخميني. لكنه فقد لفترة طويلة استقلاله السياسي، وبات كأغلب أفراد الطبقة الدينية، يتنافس في التملق لخامنئي، وهو الدور المعاكس للدور الذي يفترض أن يقوم به المجلس باعتباره هيئة إشرافية مهمتها الإشراف على “المرشد”.
وفي خطبة صلاة الجمعة في طهران عام 2018، صدم كرماني الكثيرين بزعمه أن خامنئي يحكم تماما كما كان سيحكم الإمام المهدي المنتظر. بدت مثل هذه الكلمات مسّا بالإمام الشيعي الثاني عشر، الغائب، وفقا للاعتقاد الشيعي، والذي سيعود ذات يوم ليعلن نهاية الزمان.
وكان كرماني قد أظهر في السابق جُبنه عندما ادعى أمام المجلس، بعد انتخابات عام 2016، أنه لم يكن يرغب في أن يكون جزءا من القائمة الانتخابية المدعومة من الإصلاحيين والتي أقرها رفيقه القديم في السلاح، المعتدل آية الله أكبر هاشمي رفسنجاني، المكروه من المتشددين بسبب تحالفه مع الإصلاحيين وتنافسه مع خامنئي. فنأى كرماني بنفسه عن جهود صديقه القديم، رغم أنه على الأغلب استطاع الحفاظ على مقعده في المجلس بفضل إدراجه في القائمة ذاتها التي يتنكر لها الآن.
وسيترأس الرجل البالغ من العمر 93 عاما المجلس لمدة عامين. أما نائباه هاشم حسيني بوشهري وعلي رضا أعرافي، فهما أكثر تشددا.
لجنة سرية
لكن ربما يكون الأعضاء الأكثر أهمية في المجلس ليسوا أولئك الجالسين في الرئاسة بل أعضاء لجنة سرية مهمتها اختيار مرشحين لمنصب “المرشد الأعلى”. ووفقا لمصدرين تحدثا إلى “رويترز”، جرى بالفعل إزالة رئيسي من هذه القائمة قبل ستة أشهر بسبب فترة حكمه الكارثية كرئيس. لكن الحقيقة هي أن هذه الأمور لا يعرفها سوى عدد قليل جدا من الناس في الجمهورية الإسلامية، مما يضفي على كل هذه الأحاديث طبيعة تخمينية.
ولكن بغض النظر عن التكهنات، تظل هناك نقطة واحدة صحيحة: عندما تحين اللحظة، لن يتمكن المجلس من التصرف بشكل مستقل تماما عن جميع النخب العسكرية والاقتصادية والسياسية التي يهيمن صراعها الداخلي على جزء كبير من السياسة الإيرانية في السنوات الأخيرة.
قميص الرئيس الشعبوي
وتذكيرا بدور مثل هذه النخب يأتي حضور الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد للجلسة الافتتاحية للمجلس في 21 مايو/أيار، مرتديا قميصا أبيض، فيما اعتبره البعض خطوة غير محترمة تجاه رئيسي، ومنهم آمنة السادات ذبيح بور، المذيعة المتشددة في التلفزيون الحكومي، والتي اشتهرت بإجراء “المقابلات” مع السجناء السياسيين في الأسر. ووصفت ذبيح بور أحمدي نجاد بـ”الرخيص”، مما أدى إلى هجوم أنصاره عليها بعبارات قاسية، واتهامها حتى بإقامة علاقات غير مشروعة أثناء زياراتها لنيويورك خلال مؤتمرات القمة التي عقدتها الأمم المتحدة.
ولفترة طويلة، كان بعض أنصار أحمدي نجاد معارضين علنيين لرجال الدين. ولهذا، ليس من المستغرب قيام خامنئي، عبر “مجلس صيانة الدستور”، بمنع الرئيس الشعبوي السابق من الترشح للرئاسة، وهو الأمر الذي قد يضطر إلى فعله مرة أخرى إذا سجل أحمدي نجاد للترشح في الانتخابات المقبلة في نهاية يونيو/حزيران الجاري.
وكل ما سبق يعطي أيضا لمحة عن الصراع الداخلي الذي سيحدث بالتأكيد بعد موت خامنئي وعند انتقال مهمة انتخاب خليفته إلى المجلس. وإذا كان من الممكن الاستشهاد بتجربة كرماني المخيفة، فمن غير المرجح أن يحتفظ رجال الدين المسنون بقدر كبير من الاستقلالية في السلطة، ومن المرجح أن يجري توجيههم من قبل فصائل من خارج المجلس، يحمل الكثير منها السلاح بدل العمائم. هؤلاء الملالي المسنون لا يمثلون مستقبل إيران، بل ماضيها.