ربما تعيش منطقة الشرق الأوسط في خلافات بين دولها أكثر من أي منطقة أخرى في العالم، فأكبر قوتين في هذه المنطقة وهما إيران والسعودية تخوضان حرباً باردة فيما بينهما، وهناك الآلاف من الكتل الصغيرة الأخرى في المنطقة، ويتسبب هذا الأمر في صعوبة التجارة داخل المنطقة، وغالباً ما تكون العلاقات الاقتصادية الحالية غير متكافئة وأحادية الجانب، وتستند إلى احتياجات الحرب.
العلاقات الاقتصادية بين إيران وسوريا من الأمثلة الواضحة على هذه الظاهرة، فحتى عام 2011 لم تكن هناك علاقات اقتصادية تذكر بين البلدين على الرغم من التحالف الاستراتيجي بينهما على مدار 30 سنة، ولكن الأوضاع تغيرت هذا العام.
فقد قام الرئيس السوري بشار الأسد بقمع وحشي لانتفاضة شعبه في جميع أنحاء سوريا، وأغرق البلد في حرب أهلية، وتحولت إيران إلى داعم رئيسي له في المنطقة، وأصبح ذلك أساساً لنمو العلاقات الاقتصادية بين البلدين.
نشر موقع “تقرير سوريا” مؤخراً تقريراً يفيد بوجود علاقة اقتصادية قوية، ولكن أحادية الجانب بين طهران ودمشق، ويقول التقرير إن هذه العلاقة “عميقة ودائمة”.
وتصدر هذه النشرة برئاسة تحرير الصحفي السوري جهاد يازجي، وبواسطة شركة يقع مقرها في لبنان، وتُعد من أهم المصادر الموثوقة حول الاقتصاد السوري.
وكانت إيران قد أقرضت سوريا خلال الـ 10 سنوات الماضية ما لا يقل عن 5.6 مليار دولار، وأُنفِقت كل هذه الأموال تقريباً على استيراد النفط الخام وسائر المستخرجات النفطية، والمعدات والآلات من إيران.
ووفقاً لتقديرات أحد مراكز الأبحاث في دمشق في عام 2017، فقد أنفقت سوريا ما قيمته 1.3 مليار دولار على الاستيراد من إيران. ومن ناحية أخرى قامت سوريا بتصدير سلع بقيمة 13 مليون دولار فقط إلى إيران في نفس العام، أي ما يعادل أقل من 2٪ من صادرات هذه الدولة.
العقوبات والحرب
عندما وصل حسن روحاني إلى السلطة ادعى أن المفاوضات النووية والاتفاق النووي سيسرعان إقامة علاقات اقتصادية بين إيران والغرب، والآن بعد تعطيل الاتفاق النووي بناء على طلب ترامب، تسعى حكومة روحاني اليائسة وراء التعاون الاقتصادي مع الدول التي تخضع أيضاً للعقوبات كفنزويلا وسوريا، وهذا هو “محور اليأس” الإيراني الجديد.
وأشار في تقرير موقع “تقرير سوريا” إلى أن العلاقات الاقتصادية الإيرانية-السورية تستند إلى حد ما على حقيقة أن كلتا الدولتين تعانيان من العقوبات الأمريكية. فعلى سبيل المثال: فقدت إيران أغلب مشتري نفطها، ولكنها زادت من صادراتها النفطية إلى سوريا. هذا في حين يعاني تصدير النفط إلى سوريا من مشاكله الخاصة، وشاهدنا العام الماضي بريطانيا تحتجز سفينة إيرانية في مضيق جبل طارق بسبب إرسال النفط إلى سوريا. وتُعد المؤسسات التي تقع تحت وطأة العقوبات مثل بنك صادرات إيران والبنك التجاري السوري من الأدوات الرئيسية لتعزيز العلاقات الاقتصادية بين طهران ودمشق.
ويبقى الأهم من العقوبات هو تلك الحرب التي تجعل الوجود الاقتصادي الإيراني في سوريا ممكناً، فقبل عام 2011 وبسبب عدم وجود علاقات تجارية تاريخية، وعدم وجود حدود برية لأجل ذلك لم توجد معاملات تجارية تُذكر بين البلدين، وفي عام 2004 شاركت إيران في الاستثمار بمصفاة تكرير بتروكيماويات تقع بالقرب من دمشق. والأمر الآخر كان دور شركة “أحداث صنعت” الإيرانية في توسيع نطاق مصنع الإسمنت في مدينة حماة، ولكن هذه المشاريع لم يتم افتتاحها.
في فترة الحرب دخلت إيران في العديد من القطاعات الاقتصادية الرئيسية والاستراتيجية في سوريا، وأعلنت طهران بوضوح أنها تريد إعادة مليارات الدولارات التي أنفقتها على وجودها العسكري والمدني في سوريا.
ونرى في هذا التقرير أن لإيران حضوراً كبيراً ليس فقط في صناعة النفط، ولكن أيضاً في استخراج الفوسفات، والعقارات، والطيران، وصناعة السيارات، والكهرباء، والهواتف النقالة وإدارة الموانئ، والزراعة، وتربية الحيوانات، والتعليم في سوريا، وقد أوضح تقرير موقع “تقرير سوريا” بالتفصيل الوجود الإيراني في كلٍ من هذه الصناعات.
وتتشكل أساس العلاقة الاقتصادية بين البلدين على خطوط الائتمان الثلاثة التي منحتها إيران لسوريا على مدى العقد الماضي، (وخط الائتمان هو مصطلح اقتصادي، وعبارة عن ميزانية مخصصة لإقراض الحكومة والتجارة والأشخاص الحقيقيين)، وكان أهمها في يوليو 2013 بقيمة 3.6 مليار دولار، وتركز على بيع النفط والمنتجات البترولية، وقد تم منح خطين ائتمانيين آخرين بقيمة مليار دولار لكل منهما، ومن الصعب الحصول على إحصائيات وأرقام دقيقة حول التجارة بين البلدين، ولكننا سنقرأ في التقرير أن سوريا ربما إلى حد كبير استخدمت كل خطوطها الائتمانية. وبالتالي نظراً إلى الصعوبات الموجودة في اقتصاد كلتا الدولتين، فإن استمرار هذه العلاقات مُعرض للخطر.
التنافس مع روسيا
وباستثناء إيران تُعد روسيا قوة أجنبية هامة تدعم حكومة الأسد, وفي تقرير موقع “تقرير سوريا” قرأنا تفاصيل المنافسة بين طهران وموسكو للهيمنة على الاقتصاد السوري. وتتمثل أشد مجالات هذه المنافسة في إدارة الموانئ واستخراج الفوسفات، ولكننا نشهد هذه المنافسة حتى في مجالات مثل التعليم، فعلى سبيل المثال تحاول إيران إطلاق فصول تعليم اللغة الفارسية في سوريا، ورفع مستوى الوعي بالمذهب الشيعي الاثني عشرية في سوريا باستخدام “مجمع التقريب” الذي تم إنشاؤه لتقريب وجهات النظر بين المذاهب المختلفة. ولكن روسيا تريد أن تُدرس في الجامعات المزيد من الثقافة واللغة الروسية.
وفي العديد من مجالات الاقتصاد السوري تتقدم إيران على روسيا، وقد أشار هذا التقرير إلى توفير الكهرباء لسوريا باعتباره “أهم مجالات التعاون بين البلدين من الناحية التاريخية”، وقد حصلت الشركة القابضة “مجموعة مبنا” الضخمة في طهران على ثلاثة عقود لبناء محطات إنتاج الطاقة في تشرين وحمص واللاذقية.
يحتوي تقرير موقع “تقرير سوريا” على بعض المعلومات المثيرة للاهتمام حول محطة اللاذقية يقول: إن بناء محطة كهرباء اللاذقية هو مشروع بقيمة 411 مليون دولار بدأ العام الماضي، وكان من المقرر أن يكتمل في غضون ثلاث سنوات، ولكن نقص السيولة في كلا البلدين جعل من غير المرجح أن يمضي هذا المشروع قُدماً.
وفي بعض المجالات، تراجعت إيران عن روسيا، فعلى سبيل المثال: يبدو أن أعمال استخراج الفوسفات وصلت إلى شركة “ستوري ترانس جاز” الروسية، كما أن بعض المجالات هي ساحة للمنافسة الشديدة بين إيران وروسيا أيضاً، بما في ذلك إدارة الموانئ.
في مجالات مثل الهواتف النقالة، تواجه الشركات الإيرانية العديد من المنافسين، ومن المحتمل ألا يكونوا مقتصرين على الشركات الروسية فحسب، ففي يناير 2017 وقعت الشركة الإيرانية “همراه اول” (التابعة للحرس الثوري) على عقد مبدئي في نطاق السوق السورية، ولكن لم يتضح ما حدث من ذلك الحين وحتى الآن، ولم يذكر تقرير موقع “تقرير سوريا” اسم رامي مخلوف. ورامي مخلوف هو ابن خال بشار الأسد، وأحد أغنى الشخصيات في الدولة، والمالك الرئيسي لشركة “سيرياتيل”، ومؤخراً، تم الكشف عن خلافاته مع بشار الأسد. وفي وقت سابق استخدم مخلوف الاتصالات الحكومية لطرد المنافسين الآخرين من القوى الأجنبية مثل عائلة ساويرس (أحد أقباط مصر) من سوق الهواتف النقالة في سوريا، وهو معروف بعلاقاته الاقتصادية والثقافية الوثيقة مع إيران.
الدولة التي تم نهبها
لا شيء يقلق المعارضة السورية أكثر من شراء إيران للأراضي والممتلكات في دمشق على نطاق واسع، وخاصة في المنطقة المعروفة باسم “المدينة القديمة” بالعاصمة. ويقال إن إيران تعتزم تغيير الطبيعة الديموغرافية لهذه المنطقة، فمنذ مئات السنين كان غالبية سكان العاصمة السورية من السُنة، ولكن في السنوات الأخيرة انتقل العديد من الشيعة الإيرانيين والأفغان والسوريين إلى هذه المدينة، كما فر العديد من المسيحيين وغيرهم من السكان غير المسلمين من البلاد خلال الحرب.
في تقرير موقع “تقرير سوريا” نقرأ أن إيران لديها نوايا “واضحة” في هذا الصدد، ولكن لا توجد أدلة كافية لإثبات ادعاءات المعارضة.
ومع ذلك، فإن بعض الحقائق المذكورة في التقرير جديرة بالملاحظة: فعلى سبيل المثال، باع العديد من المسيحيين السوريين ممتلكاتهم للطائفة الشيعية السورية الصغيرة، وهذه الطائفة معروفة بعلاقاتها الاقتصادية الوثيقة مع إيران. وفي مارس 2019 وعدت شركة إيرانية ببناء 200 ألف وحدة سكنية في سوريا معظمها في دمشق.
إن إيران تتحدث عن التآخي الإسلامي و”محور المقاومة”، ولكن يبدو أن إيران تسعى لتحقيق مكاسب مالية في سوريا، وقد سمعنا مؤخراً من النائب الأصولي في البرلمان والرئيس السابق للجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية “حشمت الله فلاحت بيشه”، أن إيران أنفقت ما بين 20 إلى 30 مليار دولار في سوريا، وتريد استعادة هذا المال بأي طريقة.
ولا يختلف هذا الرقم عما نشرته صحيفة الحياة العربية عام 2015، حيث أفادت تلك الصحيفة بأن إيران استولت على 20 مليار دولار من العقارات والأملاك في سوريا كضمان لديونها.
ويعتقد تقرير موقع “تقرير سوريا” بأن العلاقات الاقتصادية بين البلدين مستمرة، لأن “التحالف الاستراتيجي طويل الأمد” بين طهران ودمشق قد أوجد هذه الضرورة، وأشار التقرير إلى أنه في الشهر الماضي (مايو 2020) تم منح إيران عقداً لاستخراج النفط على الحدود السورية -العراقية.
ويتمتع بشار الأسد بمكانة خاصة في تاريخ سوريا تتمثل في كونه الرجل الذي أباد شعب بلاده بجنود أجانب، ومن ثم فتح أبواب البلاد للمصالح الاقتصادية لهؤلاء الأجانب، والآن تتنافس هذه الدول على الاقتصاد السوري بلا رحمة.